يظل "سبيروسباتس" واحدا من الأمثلة الجديرة بالتأمل حول التقلبات المفاجئة للأسواق على خلفية الأحداث السياسية. (شترستوك)
"تلقينا مئات الاتصالات من الجميع، تنهال علينا الطلبات من منافذ بيع تجزئة وسلاسل المطاعم، الجميع يريد أن يحصل على منتجنا، لم نعد ننعم بنوم لأكثر من ساعتين. الهواتف لا تتوقف، حالة الزخم بمشروب سباتس وصلت إلى ذروتها، ضاعفنا الإنتاج مرة واثنتين وثلاث".
(مُرقص طلعت، مدير تسويق شركة "سبيروسباتس" في حوار صحافي (2))
في عام 1920، وفي الوقت الذي كانت فيه مصر المحروسة تحتفل بميلاد وليّ العهد "فاروق الاول"، الابن الوحيد للملك فؤاد والملكة نازلي، ومع توزيع الهدايا والمأكولات والمشروبات المجانية على عموم الشعب ابتهاجا بميلاد ملك البلاد القادم، كان من بين هذه المشروبات مشروب غازي يبدو جديدا في السوق المصري يحمل اسم "سبيروسباتس"، الذي لاقى قبولا جيدا من الناس.
للوهلة الأولى، يبدو اسما غريبا عصيّا على النطق، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للمصريين آنذاك، حيث كانت مصر تعج وقتها بالجاليات الأجنبية من مختلف الجنسيات. لم يكن من الصعب على المصريين معرفة أن هذا الاسم يعود إلى "الخواجة" اليوناني "سبيروسباتس" الذي أطلق مشروبه الغازي الأول الذي يحمل اسمه في السوق المصري. كان "الخواجة" في ذلك الوقت قد تجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، وقد مرَّ برحلة كفاح أوصلته إلى إنتاج هذا المشروب.
وُلد "سبيرو" عام 1885، وجاء إلى مصر وهو في سن الخامسة عشرة، وتعلم في المدارس المصرية التي كانت تضم أعدادا كبيرة من الأجانب بمختلف الجنسيات. قبل أن يأتي إلى مصر، عمل الصبيّ اليوناني في مناحل العسل في جزيرة كاليفورنيا المحلية، وهو ما سيؤثر بشدة على تصوراته المستقبلية، وسيجعله يضع شعار "النحلة" على مشروبه الغازي للأبد. في عام 1909، كان الشاب يعمل في المصنع الصغير الذي يملكه عمه "نيكول سباتس" للمشروبات الغازية، مما جعله يتشرّب الصنعة ويتقن كل مراحل إنتاج المشروبات، وأكسبه خبرة كبيرة في مجال التصنيع، وأطلق طموحه الشخصي لإنشاء مشروب غازي مُبتكر.
أطلق مصنع سبيروسباتس عام 1920 وسط القاهرة، وبشعار "النحلة" (صفحة سبير سبايتس على الفيسبوك)
"سبيروسباتس. لقد جاء هذا الرجل إلى مصر صغيرا مثل ثيو خارس، بل أصغر منه، وكان يحمل فكرة واحدة مُهمَّة وجديدة هي ضرورة إنتاج مشروب مصري وطني للمياه الغازيّة. لقد كان من المعتاد أن يستثمر الأجانب في صناعة البيرة، لكن ظلت هناك حاجة دائمة إلى مشروب مصري شعبي يتماشى مع فكرة تحريم المشروبات الكحولية في الدين الإسلامي".
(من كتاب "السبع خواجات" للكاتب المصري مصطفى عبيد (3))
منذ إطلاق مصنعه عام 1920 في شارع خليج الخور المتفرع من شارع عماد الدين بمنطقة وسط القاهرة، وبشعار "النحلة" المميزة الذي أصرّ سباتس أن يكون هو الشعار الرسمي للمشروب الغازي بجانب اسمه، بدأ مشروب "سبيروسباتس" يلقى رواجا كبيرا في السوق المصري بين جميع الأوساط الشعبية والجاليات الأجنبية كذلك. ومع التنوّع في نكهاته، حقق المشروب انتشارا واسعا خلال السنوات اللاحقة، لدرجة أنه حصل على ميدالية الملك فاروق في المعرض النوعي الثاني للصناعات الذي أُقيم عام 1941 بوصفه أفضل منتج محلي في مجال المشروبات الغازية -أو الكازوزة كما كان يُطلق عليها آنذاك- متفوقا على عشرات المصانع الأخرى المنافسة في هذا المجال.
ازدهر المشروب ازدهارا كبيرا في مصر الملكية، وأصبح من الصناعات الوطنية المصرية التي تلقى تشجيعا حكوميا، لدرجة أن القصر الملكي أجرى تعاقدا لتوريد احتياجاته من مشروبات "سبيروسباتس". هذا الازدهار أدى إلى نمو المصنع الذي اتسع ليشمل مئات العمال، وأكثر من 20 سيارة لتوزيع المنتجات في جميع المحافظات المصرية -وهو ما يُعَدُّ أسطولَ سيارات كبيرا في ذلك العصر- فضلا عن استخدام السكك الحديدية لتوصيل المنتج إلى المناطق البعيدة في جنوب مصر.
في حقبة الخمسينيات بعد إعلان الجمهورية، فإن شركة "سبيروسباتس" نجت من قبضة الضباط الأحرار وعبد الناصر وواصلت عملها بالكفاءة نفسها (مواقع التواصل)
في الثامن من مايو/أيار عام 1950، توفي "الخواجة" سبيروسباتس عن عمر يناهز الخامسة والستين، ودُفن بمدافن مصر القديمة بجوار كنيسة مارجرجس، تاركا وراءه أربعة من الأبناء، ثلاثة منهم من الذكور، ومشروب غازي متعدد النكهات يهيمن على سوق المشروبات في مصر، وبعد وفاته، تولى ابنه "إيليا" قيادة الشركة من بعده.
ورغم موجة التأميم التي طالت الشركات المملوكة للأجانب في حقبة الخمسينيات بعد إعلان الجمهورية، فإن شركة "سبيروسباتس" نجت من قبضة الضباط الأحرار وعبد الناصر وواصلت عملها بالكفاءة نفسها، بل واعتبرتها ثورة يوليو مثالا للمنتج المحلي المصري الذي يستحق التشجيع والدعم، وحاز على ثقة الدولة والسوق لدرجة أنه كان الشراب الأول في المؤسسات الحكومية المصرية.
في تلك الفترة، تحوَّل "سبيروسباتس" إلى علامة تجارية شهيرة حتى على المستوى الفني والإعلاني، حيث عُرف أنه المشروب الغازي المفضل للمطربة المصرية الأشهر "أم كلثوم"، كما ظهر في العديد من الأفلام المصرية الشهيرة في تلك الفترة، أشهرها فيلم "باب الحديد" الذي لعبت فيه الممثلة "هند رستم" دور "هنومة" بائعة المشروبات الباردة، وكانت تقتصر على مشروب "سبيروسباتس" بالتحديد (4).
توفى إيليا عام 1960، ليبدأ عصر جديد في الستينيات استمرت فيه علامة "سبيروسباتس" التجارية بالقوة نفسها، مع اتجاه الدولة إلى دعم المنتجات المحلية، حتى جاءت هزيمة 1967 لتحمل واقعا مصريا جديدا مَثَّل انعطافة كبيرة في شهرة المشروب الغازي ونجاحه الذي استمر بوصفه أهم منتج محلي في البلاد لأكثر من أربعين عاما.
من الحكايات الطريفة التي تتداولها الأخبار في تلك الفترة عن مشروب "سبيروسباتس" ما حدث في مظاهرات الطلبة التي اجتاحت الجامعات المصرية عام 1968 عقب الهزيمة، حيث خرج الطلاب في مظاهرة رُددت فيها نداءات مناهضة للرئيس المصري جمال عبد الناصر باعتباره المسؤول الأول عن النكسة. وعندما حاصرت قوات الأمن المظاهرة، أخرج المتظاهرون زجاجات سباتس وهتفوا جميعا: "يسقط سبيروسباتس.. سبيروسباتس خان الشعب". كان هذا الهتاف تورية للتنديد بالزعيم دون ذكر اسمه.
بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، واتجاه الدولة المصرية إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي واعتناقها النموذج الغربي، امتلأت الأسواق المصرية بالمنتجات العالمية وعلى رأسها مشروبات شركتَيْ "كوكاكولا" و"بيبسي" العالميتين، مما أدى إلى تراجع حاد في انتشار المنتجات المحلية، وهو الأمر الذي طال شركة "الخواجة" اليوناني. ومع ذلك، استمر بقاء "سبيروسباتس" في الأسواق المصرية بإشراف أبنائه حتى نهاية التسعينيات، عندما أُعلِن عن الاستحواذ على الشركة بالكامل عام 1998 بواسطة شركة "سابسا" للمياه الغازية، وهي شركة مصرية تأسست عام 1970 بواسطة رجلَيْ الأعمال الشقيقين طلعت عطوان وسمير عطوان، وكانت تعمل على تطوير بعض المشروبات الغازية المحلية أيضا.
مع رحيل أبناء "الخواجة" سباتس من مصر، وتحوُّل الشركة إلى إدارة مصرية، حافظت "سبيروسباتس" على علامتها التجارية وتطوير نكهاتها، رغم أن انتشارها أصبح محدودا للغاية لدرجة أنها اختفت تماما من المحال والمقاهي المصرية خلال العقد الأول من الألفية. ومع وفاة الشقيقين عطوان وسفر العديد من أبنائهما للخارج، واصلت "سبيروسباتس" اختفاءها حتى توقف المصنع نهائيا وبِيع عام 2014، وهو ما يعني وفاة العلامة التجارية التي أسسها اليوناني الطموح قبل نحو 100 سنة (1) (3).
"أعدنا افتتاح الشركة مرة أخرى، المياه الغازية هو عمل العائلة، لدينا تاريخ يمتد لعشرات السنين في الصناعة، نحن نعرف أسرارها وتفاصيلها أكثر من أي شخص آخر، ونعرف قدرتنا على الوجود بخطة طموحة لكن بأهداف محددة".
(مرقص طلعت، أحد ملاك "سبيروسباتس")
بعد أسابيع يسيرة من اندلاع المعركة، ارتفعت مبيعات "سبيروسباتس" بنسبة 300%، وهو رقم لم يكن متوقعا على الإطلاق. هذا الطلب الشديد كان مفاجئا للشركة، ورغم أنه يبدو فرصة لن تتكرر، فإنها حملت في طياتها تحديا كبيرا في ظل نقص إمكانيات الشركة الإنتاجية لتوفير منتجها في السوق بغزارة تتلاءم مع كثافة الإقبال، وأيضا تحسين نكهاتها لتُنافس المنتجات العالمية. كان من الطبيعي مع حجم الإقبال الضخم أن تعلن الشركة عن فتح أبوابها لتوظيف آلاف العمال، وهو ما جعلها تتلقى أكثر من 15 ألف سيرة ذاتية بنهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتُطلق نشاطا إعلانيا كبيرا ساهم في تعريف ملايين المصريين بعلامتها التجارية (5) (6).
في النهاية، مَثَّلت حرب غزة قُبلة حياة للعديد من المنتجات والخدمات المحلية المختلفة في البلاد العربية، كان مشروب "سبيروسباتس" على رأسها، حيث أصبح الاسم -مع صعوبة نطقه- شائعا بين المصريين، حتى أولئك الذين لم يتذوقوه بعد بسبب نقص كميته في الأسواق، رغم ارتفاع سعره الذي تضاعف بسبب كثافة الإقبال. وفي النهاية، يظل ذلك واحدا من الأمثلة الجديرة بالتأمل حول التقلبات المفاجئة للأسواق على خلفية الأحداث السياسية، والكيفية التي يمكن أن يتغير بها شكل المنافسات التجارية بين ليلة وضحاها.
المصادر
آراء عملائنا الكرام
شكرا... تم ارسال طلبكم بنجاح
خطأ... يرجى المحاولة من جديد والتأكد من جميع الإدخالات